I - الأفكار الاقتصادية في العالم الإسلامي:
يعتبر ظهور الإسلام ثورة كبرى من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية خاصة و أنه انطلق من قبيلة عربية، قبيلة قريش، اشتهرت بالتجارة و تنظيم أسواق موسمية كبرى، فقد نادى الإسلام بالمساواة بين الأفراد المسلمين أمام القانون و سعى إلى القضاء على الرق و حارب الاستغلال الاقتصادي و الأرباح الغير ناتجة عن اجتهاد، و حرم الربا و فرض الزكاة على المالكين.
و يعتبر موقف الإسلام من النشاط الاقتصادي من المواقف الصريحة التي لا يمكن مناقشتها ، فهو دين يشجع هذا النشاط و يحث على السعي المادي للأفراد و يدفع بالتجارة و يعتبر انه من حق المسلمين أن يهتموا بالمعطيات المادية قدر اهتمامهم بالواجبات الدينية ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و اعمل لأخرتك كأنك تموت غدا)،و نجد عدة آيات قرآنية و أحاديث نبوية تشيد بالنشاط الاقتصادي .
إلا أن الأفكار الاقتصادية لم تأخذ باهتمامات رجال المعرفة بسبب خضوع الحياة الاجتماعية للتعاليم الدينية لذلك كان القرآن و كانت السنة و اجتهادات العلماء المصدر الأساسي للفلسفة الاقتصادية عند الإسلام.
و لم تظهر عطاءات بعض الاقتصاديين إلا في فترات الاضمحلال الحضاري الذي مس العالم العربي أي في القرن الرابع عشر.
1_ مبادئ الفكر الاقتصادي الإسلامي:
يقوم اقتصاد الفكر الإسلامي على أسس يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 _ الحرية الاقتصادية المقيدة:
الإسلام نظام اقتصادي أيضا،يؤمن بالحرية الاقتصادية للفرد، حيث سمح للأفراد بحرية ممارسة النشاط الاقتصادي بحدود من القيم المعنوية و الخلقية التي جاء بها الإسلام. إلا أن هذه الحرية مقيدة و ليست مطلقة و ذلك لأنه في حين سماحه بحرية ممارسة النشاط الاقتصادي الذي يرغب فيه ،إلا أنه يشترط أن يكون هذا النشاط الاقتصادي مشروعا،و إقرار مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام و تدخل الدولة لحماية المصالح العامة و حراستها.
و قد منعت الشريعة بعض الأنشطة الاقتصادية كالربا و الاحتكار و الغش لأنها ليست من القيم و المثل العليا التي نادى بها الإسلام و الذي يسمح للنشاط الاقتصادي الذي يسعى إلى تحقيق التكافل و العدل و الصدق و التراحم و يحرم النشاط الذي يؤدي إلى جمع الثروات عن طريق الكسب غير المشروع و إلى اكتناز الثروة.
2 _ الملكية:
يعترف الإسلام بالملكية بنوعيها الملكية الخاصة و الملكية العامة.
أ_ الملكية الفردية:
الملكية الفردية يقرها الإسلام إلا أنها محدودة في إطار المصلحة الاجتماعية العامة و مقيدة بمجموعة من المبادئ التي تحفظ حقوق المجتمع و يكون الانتفاع بها حصرا للفرد دون أن يضر بمصلحة الجماعة و تعتبر من الملكية الفردية بشكل أساسي كل ما يمكن امتلاكه بالعمل الفردي من مصادر محللة بالشرع. و هي خالية من كل تعسف في استعمال هذا الحق و قد وضع الإسلام عدة أحكام موسعة في هذا المجال.
ب_ الملكية العامة:
و هي الأموال المخصصة للمنفعة العامة ،و هي تشكل في الإسلام جميع الوسائل المادية التي تهم المجتمع من حيث المنفعة التي تقدمها أو من الضرورة لحياة الناس يشكل عام ( المسلمون شركاء في ثلاثة الماء و الكلأ و النار)،لكن إمكانية القياس مع هذه الموارد لها مكان في الاسلام بحيث يمكن تعميم الملكية الجماعية على ثروات الغابات و باطن الأرض و ما فيها من معادن ثمينة.
3 _ العمل:
يربط الإسلام بين العمل و الإيمان ،فالله سخر الأرض للإنسان ليعمل عليها و يستفيد منها ،و الإسلام يعتبر العمل فرض يضاهي الفروض الأخرى و يؤكد على كرامة العامل مكانته عند الله. و يمكن تلخيص المبادئ الأساسية للإسلام في العمل فيما يلي:
1_ تقديس العمل :و لهذا فهو يقر حق العامل في الأجر المتناسب مع حاجات الإنسان المادية.
2_ يبين الإسلام الحد الأدنى للأجر الذي يكون كافيا للملبس و المأكل و السكن.
3_ العمل أساس الملكية .
4_ مبدأ العدالة الاجتماعية :
تقوم العدالة الاجتماعية من وجهة نظر الفكر الاقتصادي الإسلامي على مبدأين عامين،الأول مبدأ التكافل العام و الثاني مبدأ التوازن الاجتماعي . و في التكافل الاجتماعي و التوازن في توزيع الثروة في المجتمع تحقيق العدالة الاجتماعية.
فالعدالة الاجتماعية تأتي من دوافع فردية و اجتماعية .
_ الدوافع الفردية: الصرفات و الهبات و الهدايا التي يتقدم بها المتسولون إلى رضاء الله بالعطف على المعوزين ، فالإسلام يشجع على تقديم المساعدة لفئات عديدة ( المحتاجين ،ذوي القربى،اليتامى،أبناء السبيل،.....) و يركز على الجانب الصالح من النفس الإنسانية لكي يأتي ألاحسان طواعية.
_ الدوافع الاجتماعية:
الإسلام يفرض على الجماعة حفظ حياة الفرد و بقائه ،و من هنا جاءت مؤسسات الزكاة و خمس الغنائم و الخراج و الوقف و الخراج و عشور التجارة. و الإسلام أخضع الحياة الاقتصادية للقواعد الأخلاقية بما يكفل ازدهار الفرد في مجتمع عادل.
1 - الأفكار الاقتصادية لابن خلدون(1332-1406):
حياته: ولد ابن خلدون في تونس و توفي في القاهرة و هو من عائلة تنحدر أصولها من جنوب الجزيرة العربية ،تقلبت في مناصب الحكم و القضاء في تونس و الأندلس تحدرت من جدها خالد بن عثمان الذي كان دخل الأندلس مع جند اليمنية في عهد الفتوحات الإسلامية و تحول اسمه إلى "خلدون" وفقا للتقاليد السائدة في الأندلس.
تتلمذ ابن خلدون على أيدي عدد من العلماء و المفكرين بجامع الزيتونة بتونس حيث درس تعاليم الدين من خلال القرآن و الشريعة و الفلسفة،و تابع دراسته في فاس بالمغرب حيث اطلع على الفلسفة و العلوم و الرياضيات و الفلك و الطب و التاريخ.
و منذ أن بلغ ابن خلدون الثامنة عشر من عمره بدأ بالمشاركة في الحياة السياسية حيث تقلد عدة مناصب من كتابة السر إلى القضاء و السفارة و الوزارة في بلاط الأندلس و فاس و غرناطة و أدت النزاعات و الألعاب السياسية في المغرب العربي بابن خلدون إلى ترك الحياة العامة سنة 1374 متجها إلى التأمل و التأليف حيث أنجز بين سنوات 1375_1378 الجزء الأكبر من مؤلفه الكبير "مقدمة ابن خلدون " و ذلك أثناء إقامته في قلعة ابن سلامة حيث يصفها قائلا :" و أقمت فيها أربعة أعوام متخليا عن الشواغل ،و شرعت في تأليف هذا الكتاب و أنا مقيم بها، و أكملت المقدمة على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة ،فسالت فيها شآبيب الكلام و المعاني على الفكر ، حتى امتخضت زبدتها و تألقت نتائجها".
في عام 1379 عاد إلى تونس مسقط رأسه ليهجرها سنة 1383 بسبب أفكاره إلى مصر و هناك اشتغل قاضيا ثم معلما في الأزهر و من خلال إقامته في مصر زار لفترات قصيرة الحجاز و القدس و دمشق حيث شهد إحراقها على يد تيمور لنك عام 1401 و قد عرض عليه تيمور لنك منصبا كبيرا فرفضه
لاحظ ابن خلدون تأثير العرض و الطلب على السعر و ذلك ما ذهبت اليه المدرسة الكلاسيكية كما لاحظ ان للدولة دور هام في الحياة الاقتصادية باعتبارها المستهلك الأكبر للإنتاج و بالتالي تحدد حجم و شكل الطلب و هذا ما ذهبت اليه النظرية الكينزية في القرن العشرين.
تلك هي أهم مساهمات ابن خلدون في الفكر الاقتصادي و هي مساهمات قيمة لكنها لم تطرح الاقتصاد كعلم مستقل و لم تقدم كنظريات اقتصادية متكاملة.
2- الأفكار الاقتصادية عند تقي الدين علي المقريزي: (1364_1442)
حياته:
هو تقي الدين بن علي المقريزي، ولد في القاهرة سنة 1364 و توفي بها سنة 1442 ،و عرف بالمقريزي نسبة لحارة في بعلبك بلبنان تعرف بتجارة المقارزة فقد كان أجداده في بعلبك و حضر والده الى القاهرة و ولى بها بعض الوظائف .
كان المقريزي مؤرخا و اشتغل في عدة مناصب بالدولة ،حيث ولي فيها الحسبة و الخطابة و الإمامة عدة مرات. له عدة كتب و رسالتان تبحثان في الاقتصاد النقدي.
1_ شذوذ العقود في ذكر النقود.
2_ اغاثة الأمة بكشف الغمة.
و يعتبر المفكر العربي الوحيد الذي اهتم بمشاكل النقود ،و تميز فكره الاقتصادي بالروح العلمية حيث يأخذ مبدأ السببية و يتنكر لمبدأ القدرية " فالأمور كلها، قلها و جلها، اذا عرفت أسبابها ،سهل على الخبير إصلاحها"."فالمجاعات و أمثالها ،ليست شيئا مفروضا على الإنسان من عل، ينزل بأمر، و يرتفع بأمر ،كما أنها ليست ناجمة عن جهل الطبيعة و عماها،دون أن يكون للإنسان نصيب بها هي ظاهرة مادية اجتماعية ، لم تلازم دائما،و لكنها تقع آنا ،و تنقطع آنا آخر،تقع عندما تجتمع أسبابها و دواعيها، و تنقطع عندما تنتهي تلك المسببات و الدواعي، ان كل شيء خاضع للتطور،يولد و ينمو و يموت".
أ - ظاهرة المجاعة في مصر:
تعرض المقريزي في كتابه "اغاثة الأمة بكشف الغمة" أو " تاريخ المجاعات في مصر" الى ا لأزمات الاقتصادية و المجاعات التي عرفتها مصر.
و يرى المقريزي بأن الأسباب المجاعات بصفة عامة راجع إلى أسباب طبيعية و آخرى غير طبيعية .
فالأسباب الطبيعية "كقصور جري النيل في مصر،و عدم نزول المطر بالشام و العراق و الحجاز و غيره".
أما فيما يخص المجاعات العصر الذي عاش فيه المقريزي فيرجع أسبابها لغير الأسباب الطبيعية ،و هي اسباب سياسية و اقتصادية.
1- اسباب سياسية:
و تتمثل هذه الأسباب أساسا في فساد الإدارة خاصة في مجتمع لعبت فيه الدولة دورا هاما حيث يؤثرهذا الفساد على الانتاج مباشرة،إضافة الى ممارسة أهل الدولة لسياسة احتكارية. فأثناء المجاعة تواجدت كميات كبيرة من الغلال تحت أيدي "أهل الدولة" بفضل ما تفرضه من ضرائب مرتفعة جدا يجري تحصيلها عينا. و لم يكن في استطاعة الناس الوصول اليها الا بدفع الأسعار التي تفرضها "أهل الدولة" .
2- اسباب اقتصادية:
و تتمثل في الزيادة الكبيرة في الريع العقاري في الزراعة،كما ارتفعت اسعار البذور و اجور العمال مما ادى الى تزايد كلفة الحرث و البذر و الحصاد و غيره.اضافة الى ذلك فان الدولة زادت من ساعات عمل السخرة الذي يقوم به (اهل الفلح) في بناء الجسور و حفر قنوات الري.
و ادت هذه العوامل الى نقص في الانتاج الزراعي ،و بالأخص في جو من الظلم مارسته الادارة في مواجهة أهل الريف مما دفع بالفلاحين الى هجرة الارض ، ان هذه العوامل السابقة اثرت على الانتاج بالنقصان مع تقلب اسعار المنتجات الزراعية نحو الارتفاع.
ب- الظواهر النقدية:
اهتم المقريزي بالمشكلات الاقتصادية و قدم بعض الظواهر النقدية فهو يرى بأن النقود قد تسبب ازمات اقتصادية للدولة فالنقود بحد ذاتها لها تاثير خاص على النشاط الاقتصادي ،و لقد توصل الى ذلك أثناء تحليله للأزمة الاقتصادية التي حلت بمصر سنة 1406 م فأرجعها إضافة الى الأسباب السابق ذكرها (اسباب اقتصادية) الى فساد النظام النقدي ، و قد اقترح آنذاك على السلطان اصلاح النقد كطريقة من طرق معالجة الأزمة.
فالمقريزي يرى بأن لزيادة كمية النقود المطروحة في التداول خاصة كمية نوع معين من النقود المعدنية تؤدي الى ارتفاع المستوى العام للأسعار فيقول في النقود " ان النقود (الفلوس) التي تكون أثمانا للمبيعات و قيما للأعمال انما هي الذهب و الفضة فقط و لا يعلم في خبر صحيح و لا يقيم عن أمة من الأمم و لا طائفة من طوائف البشر ،انهم اتخذوا ابدا في قديم الزمان و لا حديثه نقدا غيرهما ،الا انه لما كانت في المبيعات محضرات نقل عن ان تباع بدرهم او بجزء منه احتاج من اجل هذا في القديم و الحديث الى شيء سوى الذهب و الفضة يكون بازاء تلك المحقرات و لم يتم ابدا ذلك الشيء الذي جعل للمحقرات نقدا البتة فيما عرف من اخبار الخليفة ،و لا اقيم قط بمنزلة احد النقدين ، واختلفت مذاهب البشر و آراؤهم فيما يجعلونه بازاء تلك المحقرات ،و لم تزل مصر و الشام و عراقي العرب و العجم و فارس و الروم في أول الدهر و آخره ملوك هذه الأقاليم لعظمهم و شدة باسهم و لعزة شأنهم و خزانة سلطانهم يجعلون بإزاء هذه المحقرات نحاسا يضربون منه اليسير قطعا صغارا تسمى فلوسا لشراء ذلك،و لا يكاد يأخذ منه الا اليسير و مع ذلك فإنها لم تقم أبدا في شيء من هذه الأقاليم بمنزلة أحد النقدين".
مما سبق نستنتج بان المقريزي ابرز اثر كمية النقود على النشاط الاقتصادي من خلال أثرها على المستوى العام للأسعار.من ناحية أخرى فان المقريزي لاحظ أثناء المجاعة بان النقود الفضية تركت المجال للنقود النحاسية تتداول بعد أن كان النوعان من النقود يوجدان معا في التداول. ففي وضع يتميز بارتفاع الأسعار و باستخدام عمليتين في بلد واحد يؤدي الى طرد العملة الجيدة من التداول من طرف العملة الرديئة لان الناس تفضل تحويل القطع النقدية الفضية لاستخدامها كمعدن أي في صناعة الحلي و الأواني ،و هكذا نجد في فكر المقريزي جوهر ما يسمى بقانون غريشام.
الفكر المركانتيلي ( التجارين): les Mercantiliste
1-الأفكار و المبادئ الميركانتيلية:
إن التحولات الكبرى التي سادت في اوروبا منذ بداية القرن السادس عشر الى القرن الثامن عشر من اكتشافات جغرافية و حركة إصلاح دينية و الاعتقاد بأن قوة الدولة تتحدد بما تملكه من الرجال و السفن و المال. كل هذه التحولات أثرت على الفكر الاقتصادي فظهر المذهب المركانتيلي Mercantiliste و هي مشتقة من كلمة mercante الايطالية و تعني التاجر.
و هذه الأخيرة بدورها تعود الى الاصل اللاتيني Mercator.
و يشبه المركانتليين ادارة المالية العامة بادارة الملكية الخاصة ،حيث يعتقدون بأن اثراء الدولة يمكن ان يتم بنفس أسلوب اثراء الفرد عن طريق التجارة بشكل أساسي ،بواسطة دخول المعادن الثمينة و بالأخص الذهب و الفضة الى الوطن، و من هذا المنطلق فانه يجب تشجيع الصادرات و وضع الحواجز الجمركية أمام الواردات.
فالمركانتيلية تعمل على تركيز السلطة الملكية و قوة الدولة في ظروف استطاع فيها الأوروبيون الاستيلاء على اولى المستعمرات و استغلال ثرواتها و إقامة علاقات تجارية واسعة للهيمنة على الامكانيات الاقتصادية للمستعمرات.
و يرى مؤرخو الفكر الاقتصادي بأن المذهب المركانتيلي قد تضمن من الأفكار ما لا يمكن أن يعتبر تحليلا اقتصاديا بالمعنى المتعارف عليه في الفكر الحديث و إنما كان عبارة عن محاولة لتحديد طبيعة بعض الظواهر، الاقتصادية التي تعرض لها مفكرو هذا المذهب . و بالرغم من أن المذهب المركانتيلي لم تكن له نفس الصورة في البلدان التي انتشر فيها غير أنه يتفق في عدة أفكار و مبادئ أهمها:
1 – ثروة الأمة تعتمد على ما يمتلكه من معادن ثمينة (ذهب و فضة): ان الفكرة السائدة لدى التجاريين هي تلك الخاصة بطبيعة الثروة و محتوى هذه الفكرة أن النقود (في صورة المعادن الثمينة و خاصة الذهب و الفضة) تعتبر لدى التجارين عنصر جوهري في تكوين الثروة ان لم تكن مرادفا لها، فالثروة هي الدعامة الأساسية لتحقيق قوة الأمة ،فثراء الدولة يعتمد على مقدار ما تملكه من معادن ثمينة و لا يمكن زيادة هذه الثروة الا بزيادة ما تحصل عليه الدولة من معادن في شكل نقود معدنية ،حيث يعتقد التجاريين أن الزيادة في المعادن الثمينة تؤدي الى ارتفاع الأسعار و هذا بدوره دافع هام لتطوير الفعالية الاقتصادية و زيادة الإنتاج و يمكن أن يفسر رأي المركانتيليين هنا على أساسين:
أ_ خلال القرن السادس عشر ارتفعت الأسعار في أوروبا ارتفاعا ملحوظا و تزامن هذا مع الزيادة الضخمة في كميات المعادن الثمينة التي تدفقت على أوروبا إضافة الى تطور النشاط الاقتصادي ناتجة عن الارتفاع في الأسعار و زيادة الكميات من المعادن الثمينة لدى الدولة،و لم يكن هذا التفسير معتمدا على أي تحليل علمي متماسك بل حدوث ظاهرتين في آن واحد .
2_ اعتبر المركانتيليين أن مستوى سعر الفائدة يتوقف على كمية المعادن الثمينة الموجودة لدى الدولة ،فاذا زادت كمية المعادن الثمينة و انخفض سعر الفائدة فإن هذا يشجع على تطور النشاط الاقتصادي .
2_ الاهتمام بالتجارة الخارجية:
يرى المركانتيليين بان الميزة الرئيسية للتجارة الخارجية تتمثل في جذب المعادن الثمينة ،و الطريق الى زيادة ثروة الأمة هو التجارة الخارجية باعتبارها الوسيلة الوحيدة لانتقال المعادن الثمينة فيما بين الدول ،و ان الفائض الذي يتكون من هذه التجارة يزيد ثراء الأمة و يعوضها عن افتقارها الى مناجم الفضة و الذهب ، فالفائض المتحقق في الميزان التجاري يزيد من ثروة الأمة من المعادن الثمينة و هذه الأخيرة ضرورية لتقوية الدولة و إنعاش الأسعار و الإنتاج،و قد اهتم المركانتيليين بمشكلة الطلب الفعال مدركين بأن العجز في الميزان التجاري يكون على العموم سيئا للإنتاج . و يكون للعجز تأثير كابح على الطلب الفعال، في حين تمثل المستوردات عرضا بلا طلب و تصرف الدخول المحلية عليها، إلا ان إنتاجها لا يولد دخلا محليا . و من الجهة ألأخرى تمثل الصادرات طلبا بلا عرض مقابل له. و تنفق مجمل الدخول المكتسبة في إنتاج سلع التصدير داخل السوق المحلية لتحفز الطلب المحلي بذلك، و قد كان المركانتيليون على صواب في نظرتهم بأن فائض الصادرات يميل الى تنشيط الاقتصاد المحلى فى حين يميل فائضا الاستيرادات لجعله خاملا.
و للمركانتيليون عقيدة واضحة جدا بأن الصادرات تجلب الثروة للأمة ،فأكدوا على ضرورة تدخل الدولة في التجارة مع العالم الخارجي ،بغرض تحقيق فائض في ميزانها التجاري يعبر عن زيادة دائنة الدولة للخارج على مديونيتها للخارج فتحصل بذلك على قيمة هذا الفائض بالذهب و الفضة من الدول المدينة لها طالما أن ميزانها التجاري مع هذه الدول هو في صالحها.
فحسب المركانتليين فالتجارة الخارجية وحدها هي النشاط الذي يحقق فائضا من ا لمعادن الثمينة أما الصناعة فهي تساهم في تحقيق ثراء الأمة و لكن عن طريق التجارة لذلك فهي تأتي بعدها في الترتيب
3- تدخل الدولة في الاقتصاد:
لقد كان المركانتيليون ينظرون الى التجارة الخارجية كمصدر لزيادة الثروة الوطنية للدولة ، من هذا المنطلق فانه لا يمكن للسياسة الميركانتيلية أن تنجح الا بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية ،أي أن السياسة المركانتيلية تستلزم تدخل الدولة لتنظيم التجارة الخارجية كاتخاذ اجراءات حمائية لحماية الانتاج الوطني و ذلك بتقييد الواردات ( سواء بفرض ضرائب كثيرة عليها أو منعها من الدخول) و اتخاذ اجراءات تضمن اكتساب الأسواق الخارجية للصادرات الوطنية حيث كان للمركانتليين عقيدة واضحة واحدة بأن الصادرات تجلب الثروة. للامة و أيدوا الوسائل التي يمكن للدولة من خلالها حماية الميزان التجاري فهم اذن يطالبون بتدخل الدولة لتنظيم الحياة الاقتصادية ، و من أهم الأساليب الرئيسية للتحكم في التجارة الخارجية تنظيم احتكار الدولة لها فقامت الدولة بمنع الأجانب من التجارة في سلع معينة كما قامت بتنظيم و ادارة تجارة الصادرات الوطنية بطرق مباشرة .
-_ محاربة السلع و الخدمات الأجنبية لأنها تتسبب في تسرب المعادن الثمينة خارج الدولة و ذلك بفرض ضرائب جمركية مرتفعة أو التنفيذ و المنع المباشر أو عن طريق قوانين الملاحة البحرية و المراقبة الموانئ.
2- السياسات الميركانتيلية:
إن الاختلاف حول الطرق المؤدية الى زيادة الثروة هو الذي يفسر قيام سياسات ميركانتيلية مختلفة ،سياسة نقدية في اسبانيا و سياسة صناعية في فرنسا و سياسة تجارية في انجلترا. و ان ذلك يفسر أيضا بأن الميركانتيلية لم تكن فكرة اقتصادية بقدر ما كانت سياسة اقتصادية يقترحها رجل الادارة أو الدولة على الأمير زاعما أن تطبيقها يؤدى الى النتيجة التي لا خلاف عليها و هي: أن ثروة الأمة كثروة الأفراد تقدر بكميات النقد التي تملكها.
أ- الميركانتيلية النقدية في اسبانيا:
اعتبر الميركانتليين أن تراكم الدهب و الفضة لدى الدولة ليس فقط دليل إثراء و انما مصدر الثراء ايضا، و الطريقة الوحيدة لتقوية الدولة الاسبانية حسبهم و بالأخص لدى ORTIZ و OLIVAREZ جمع أكبر كمية ممكنة من المعادن الثمينة لذلك سميت السياسة الميركانتيلية المطبقة في اسبانيا يالسياسة النقدية.
ان السياسة الاسبانية لم تكن مبنية على اى نظرية اقتصادية و انما من واقع سيطرتها و استغلالها لمناجم الذهب و الفضة في القارة الأمريكية مما مكنها من الحصول على كميات كبيرة من المعادن الثمينة ،و حتى تتمكن من تحقيق هذه السياسة النقدية فانها اتخذت عدة تدابير أهمها:
1_ سنت قوانين تهدف الى تجريم تصدير المعادن الثمينة الى الخارج.
2_ تنظيم التجارة الخارجية بما يسمح بعدم خروج المعادن الثمينة من اسبانيا عن طريق الأساليب التالية:
أ_ اجبار السفن التي تحمل البضائع الاسبانية المصدرة الى الخارج أن تعيد الى اسبانيا من المعادن الثمينة ما يعادل حمولتها.
ب_ التزام الموردين لسلع أجنبية الى اسبانيا بعدم اخراج قيمة مبيعاتهم من اسبانيا،و انفاق هذه القيمة على شراء سلع اسبانية. اضافة الى التدخل الحكومي القوي الذي منع دخول أي سلعة أجنبية الى اسبانيا أو عرقلة هذا الدخول عن طريق فرض ضرائب جمركية عالية جدا. و كان الاعتقاد بأن وجو دالمعادن الثمينة بوفرة يسهل انتاج الثروات ، لذا فقط بذل الميركانتليين كل جهودهم للبحث عن وسائل منع خروج المعادن الثمينة من اسبانيا الى الخارج.
ان هذه السياسة النقدية أدت الى ارتفاع الأسعار و هبوط في القدرة الشرائية للنقود و هذا ما شجع على قيام الصناعات كتلبية حاجيات السوق الاسباني و املا للحصول على كميات كبيرة من المعادن الثمينة الناجمة عن ارتفاع المستمر للأسعار ،غير أن هذه الحركة الصناعية لم تكن قادرة عل اعادة التوازرن بين النقود و السلع فبقيت الأسعار على ارتفاعها،و كان بعض الاقتصاديين الاسبان اهتموا بهذه الظاهرة (تاثير المعادن الثمينة على الأسعار) و منهم Jean Bodin حيث تساءل عن الفائدة من جمع المعادن الثمينة في بلد ما اذا كان هذا سيؤذي الى تخفيض الصادرات و زيادة الواردات ثم الى اختلال في الميزان التجاري و هذا لن يصلح الا بالطرق النقدية مما سيؤدي من جديد الىارتفاع الاسعار من جديد.
لقد بين Jean Bodin بان سياسة جمع المعادن الثمينة في دولة ما التي يعتمدها الميركانتيليون الاسبان ليست الأسلوب الناجح نحو تحقيق ثروة الدولة فكانت لهذه عدة تأثيرات سلبية من جوانب عدة في اسبانيا و بالرغم ما اتخذته من تدابير عديدة الا أنها عجزت من منع خروج المعادن الثمينة الى خارج اسبانيا عن طريق تهريبها و تصديرها خفية الى الدول الأخرى وأهملت العمل الصناعي و التجاري و الزراعي معتمدة على ما يدخل البلد من ذهب و فضة.
3_ان ارتفاع الاسعار الناتج عن الزيادة في كميات الذهب و الفضة ساعد في خفض الصادرات الوطنية في وقت زادت نسبة حاجات اسبانيا للاستيراد ، مقابل خروج كميات كبيرة من المعادن الثمينة، و استفاد الفرنسيون و الانجليز و الهولنديون من هذا الوضع فراحوا يصدرون بضائعهم لاسبانيا و لو بدفع الضرائب المرتفعة لأنهم مقتنعون بلن الذي سوف يدفع كل هذه الضرائب هو المستهلك الاسباني.
و هكذا بدأ يظهر الاختلال في الميزان الاسباني و تنتقل المعادن الثمينة من اسبانيا الى البلدان الأخرى المنتجة و المصدرة للسلع و الخدمات.
و لقد تأثرت ايطاليا في بداية القرن السابع عشر بالمركانتلية الاسبانية إلا أن الايطاليين اهتموا بمشاكل تسيير المالية العامة حيث كتب Duc Cafara في ايرادات ميزانية الدولة و نفقاتها ،كما أن هناك بعض الايطاليين سايروا الاتجاه الفرنسي حيث درس Antonio Serra وسائل التصنيع لأنه اعتبر التصنيع اداة للتنمية.
ب- الميركانتيلية الصناعية في فرنسا:
على عكس اسبانيا فان فرنسا لم يكن لديها مناجم غنية بالمعادن الثمينة في مستعمراتها ،مع اعتقادها بأهمية المعادن الثمينة في الحياة الاقتصادية و بانها مصدر للثروةفبدا الاقتصاديون يفكرون في الطرق و الاساليب اللازم اتباعها للحصول على أكبر كمية من المعادن الثمينة.
و يعتبر القرن السابع عشر مرحلة التميز الفعلية بين المعادن الثمينة و الثروة و من أشهر المركانتليين الفرنسيين: Antoine de Montchrestien الذي نشر كتاب تحت عنوان" بحث في الاقتصاد السياسي" و أهداه الى الملك لويس الثالث عشر ، حيث يقول فيه " لا يصنع قوة الدولة غزارة تدفق الذهب و الفضة و انما وجود الأشياء الضرورية للحياة،لقد بدأنا نملك أكثر من آبائنا من المعادن الثمينة لكننا لسنا أكثر ثروة منهم .ان دولة ما تصبح إغنى من دولة أخرى عندما تنتج أكثر منها".
و اعتبر Montchrestien الصناعة بالنسبة للدولة " بمثابة الدم للقلب" و ان الانتاجية هي الأداة الوحيدة لضمان جميع الثروات و ان العمل هو سر السعادة،و استنادا الى ذلك فان تطور الانتاج الوطني أصبح هدف السياسة الوطنية و اعتبرت الصناعة النشاط الاقتصادي الأكثر انتاجية و أنها تمكن من الحصول على ميزان تجاري رابح و ذلك بزيادة الصادرات من المنتجات الصناعية مع تخفيض الواردات منها.
و قد تبنت فرنسا هذه السياسة و كان Colbert الوزير الفرنسيمن أكبر المركانتليين و هو الذي وضع السياسة الصناعية في فرنسا و قام بتنفيذ هذه السياسة أثناء فترة ولايتة للوزارة (1660_1683).
أما اهم التدابير التي اتخذت في عهد Colbert لتطبيق السياسة التي اتبعتها فرنسا فيمكن تلخيصها فيما يلي:
1_ انشاء صناعات حكومية و حمايتها من المنافسة الأجنبية،و لقد اختارت فرنسا الصناعة على الزراعة استنادا الى أن قيمة المنتوجات الصناعية أكبر من قيمة المنتوجات الزراعية كما أنها لا تخضع للتقلبات الموسمية و المنتوجات الزراعية أثمانها متدنية بالنسبة لوزنها . و هكذا قامت الحكومة الفرنسية بانشاء ما يسمى "الصناعات الملكية" كي تكون رمزا و قدوة من قبل المصانع الأخرى و سهرت على اتقان العمل فيها.
2_ مراقبة الدولة للمشروعات الصناعية الخاصة و ذلك من أجل ضمان جودة منتجاتها حتى تكون أكثر تنافسية لمنتوجات الدول الأجنبية ،اضافة الى وضع قوانين تهدف الى تطبيق أحدث الطرق الإنتاجية في هذه المشروعات الخاصة.
3_ تقديم كل الامتيازات و التشجيع على انشاء شركات كبرى تكون مهمتها الرئيسية تسويق منتجات الصناعة الفرنسية في الأسواق الخارجية و دعوة المواطنين الى المساهمة في رؤوس أموال هذه الشركات.
4_ تشجيع الأجانب و السماح لهم بالاستيطان في فرنسا اذ كانوا من المخترعين الصناعيين أو العمال المهرة ،مما.ساعدها على أن تشتري براءات الاختراع الأجنبية و ان تتمكن من معرفة أساليب صنع السلع المختلفة مع منع بيع أي براءة اختراع و أسلوب صناعي لدولة أخرى.
5_ فرض ضرائب على السلع الجاهزة و المستوردة و تقديم مكافآت لمصدري السلع المصنعة وطنيا،و منع تصدير المواد الأولية الوطنية مع تشجيع الاستيراد لأكبر كمية من الخارج.
6_ تطوير الأسطول التجاري الوطني و احتكار الاتصال بين الوطن و المستعمرات بغرض تطوير التجارة مع العالم الخارجي.,
7_ تخفيض تكاليف الانتاج في الصناعة الفرنسية و بالأخص ا سعار المواد الأولية و اجور العمال و منع ارتفاع تكاليف الحياة ،و مراقبة السلع المصدرة للخارج.
جـ _ الميركانتيلية التجارية في انجلترا:
على عكس الفرنسيين الذين كانوا يعتقدون بضرورة الصناعة لاقتصاد الوطنى فان المركانتليين الانجليز كان هدفهم الحصول على المعادن الثمينة عن طريق التبادل التجاري .فحسبهم أن التجارة الخارجية تزيد في ثروة الأمة أكثر من الصناعة،و لم يهتموا بالسعي وراء التصنع بل كان هدفهم هو زيادة الصادرات من السلع الب ريطانية و بيع الخدمات الخارجية للدول الأجنبية بغض ادخال المعادن الثمينة الى انجلترا.
و هم يروا بأن تدخل الدولة التي دعا اليه Colbert يعيق الصناعة، لذا دعوا الى الغاء الرقابة بشكل كامل على الصناعة و على التجارة الدولية و تشجيع المشاريع الخاصة و الانتاج و زيادة التداول التجاري ،حتى أنهم بدؤا في الاعتقاد بامكانية قيام آلية للتوازن على أساس السوق .
و من اشهر الميركانتليين الانجليز Thomas Mun،Josias Child،W.Petty،James Stewart.
و يعتبر Thomas Mun أول من وضع ميزان للتجارة الخارجية الذي يسجل عمليات التصدير و الاستيراد للاقتصاد الوطني و دعا الدولة لتشجيع الصادرات و زيادة الرسوم الجمركية على الواردات واعتقد أن كل تطور في الانتاج بحاجة الى رؤوس أموال يمكن تأمينها عندما تكون نسبة الفائدة مرتفعة حيث يرى بأن " التجارة و الفائدة ترتفع معا".
و على العكس منه فان Josias Child يرى بأنه يجب تخفيض سعر الفائدة حتى يكون الصناعي أو التاجر الانجليزي في وضعية أحسن من رفاقه الأجانب مما يساعده على المنافسة الدولية و تسويق منتجاته.
أما W.Petty فقد نادى بالحرية الاقتصادية و اعتبر أن هناك قواعد طبيعية تخضع لها كل المعطيات الاقتصادية.و يعتقد بأن الثروة تعتمد على أساسين اثنين الأرض و العمل و ذلك حسب عبارته الشهيرة "ان العمل هو الأب و الأساس الفاعل للثروة بينما أن الأرض هي الأم".
و اتبع James Stewart خطا تجاريا نوعا ما حول موضوع التجارة الخارجية خففه باشارات عن الاعتقاد بمنافع التخصص،و قد كانت احدى المشاكل التي عالجها هي مشكلة بلد يجد نفسه منافسا في البيع بسعر أرخص و ذلك في خط معين للانتاج.
0 التعليقات:
إرسال تعليق